الاعجاز التشريعي في اطول اية في القران-الاخيرة-
نظام حماية الشهود وعقوبة الشهادة الكاذبة يؤكد المشرعون حديثاً على ضرورة الاهتمام بموضوع حماية الشهود، وهذا الموضوع أخذ مساحة كبيرة من المؤتمرات والمناقشات بهدف تحسين حماية الشهود، حتى إن بعض القانونيين يعتبرون أن النظام القضائي لن يكون ناجحاً من دون تأمين الحماية الكافية للشهود، وعدم خوفهم من بطش أحد الفريقين المتخاصمين.
ربما نعجب أن هذه الآية العظيمة لم تغفل هذا الجانب المهم، بل أضافت له جانباً مهماً وهو حماية الكاتب بالعدل أيضاً، ولذلك قال تعالى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ)، وحذر من خطورة الإضرار بالشهود أو بالكاتب، فقال: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ). ومثل هذه التعاليم تجد صدى كبيراً في النفس البشرية. ولكن الشاهد أحياناً لا يقول الحقيقة كاملة، وهذا يحدث كثيراً في المحاكم، فهل نسي القرآن هذا الأمر المهم؟
بالطبع الله لا ينسى أي شيء، كيف ينسى وهو خالق كل شيء عز وجل، ولذلك قال: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ)، فهذا أمر صريح بضرورة قول الحقيقة كاملة، وانظروا كيف أن الله تعالى أمر باتخاذ الشهود، ونظم عملهم وأمر بحمايتهم وأمرهم بقول الحقيقة، وهذا ما نجده في القوانين الحديثة.
أطول آية في القرآن
والآن نأتي إلى النص الكريم الذي ينظم هذه العلاقات ويعطي كل ذي حق حقه، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة: 282-283].
هناك شيء ملفت للانتباه في هذه الآية العظيمة، وهي موضوع التقوى الذي تكرر ثلاث مرات: في قوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا): أمر إلهي بالتقوى وأن الله يراك ويرقبك، ولذلك إياك أيها المشتري أن تأخذ ما ليس لك، أو تنقص من قيمة البضاعة بل أعط صاحبها حقه كاملاً. وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ): وهنا أمر إليه بالتقوى للجميع (الكاتب والشهود والبائع والمشتري). وقوله (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ): أمر بالتقوى وعدم كتمان الشهادة. ولكن ماذا يعني ذلك؟
إن مشكلة القوانين الوضعية أنه عند غياب الرقيب، فلا توجد وسيلة فعالة تمنع الإنسان من الخطأ أو الغش أو إساءة الأمانة، ولكن القرآن جعلك تشعر بمراقبة الله لك في كل لحظة، وهنا ضمن التطبيق العملي للقوانين حتى أثناء غياب الرقابة عليه، وهذه هي عظمة التشريعات الإلهية.
كذلك يؤكد خبراء القانون أن وضع القانون لا يكفي إنما ينبغي وضع الآلية التي تضمن تطبيق القوانين، مثل دراسة جدوى هذه القوانين وفائدتها وانعكاساتها على المجتمع، والعجيب أن القرآن لم يغفل هذه الناحية الهامة، ولم يضع القوانين من دون هدف وحكمة وتوجيه، بل وضع التوجيهات اللازمة والتي تضمن تطبيق هذه القوانين، ولذلك فقد وضع لنا الله ثلاثة أهداف من هذه القوانين وهي في قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا):
1- ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: انظروا معي كيف يضع القرآن دائماً وفي مقدمة الأهداف، التوجه إلى الله تعالى، فقبل كل شيء، يجب أن تشعر بمراقبة الله لك، وعندما تحقق ذلك فإنه يستحيل أن تخون الأمانة أو تغش أو تبخس الآخرين حقوقهم، وهذا ما لم تحققه القوانين الوضعية التي "تهمل" وجود خالق عظيم يتصرف بهذا الكون، ولذلك نرى بأن تطبيق القوانين الوضعية يكون ضعيفاً، وغالباً ما تخضع لتعديلات وإضافات مستمرة، على عكس القوانين الإلهية الثابتة.
2- وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ: هذا الهدف يحدد الطريقة المثالية للتعامل من خلال توضيح الشهادة، حيث أن معظم النزاعات التجارية التي نراها اليوم، تحدث نتيجة غموض العقد والتباس ذلك على الشهود، ولكن القرآن كان حريصاً على التدقيق على هذه النقطة، أي ضرورة إحكام الشهادة ووضوحها وتوثيقها، وضمان عدم الالتباس والابتعاد عن الأخطاء.
3- وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا: هذا الهدف مهم جداً لدفع أية شبهة أو خطأ أو ارتياب. ويقول القانونيون والمشرعون، من الضروري جداً أن تتم كتابة العقد بوضوح كامل مراعية كل التفاصيل، وأن يتم دفع أي ارتياب يمكن أن يحدث. ونقول أليس هذا ما أمر به القرآن؟
النظام القرآني للعمليات التجارية يتميز بأنه صادر من الله تعالى، ولذلك فإنه يمثل أمراً إلهياً من تركه فقد أثم، ومن فعله أخذ الأجر والثواب، وهذا لا نجده في القوانين الوضعية التي جاءت فقط لحماية الحقوق.
قد يقول قائل كيف يمكن بكلمات قليلة أن نختصر كتب القانون التي تملأ المكتبات والجامعات؟ ونقول إن المسلمين بفضل هذه التعليمات القليلة بكلماتها ولكنها عظيمة بأثرها، استطاعوا أن يفتحوا العالم وأن يحقوا العدل بشكل لم يحققه أحد على مر العصور!! وهذا يدل على أثر تعاليم القرآن على الناس، ولكننا عندما ابتعدنا عن هذا الكتاب وعن تعاليم الخالق عز وجل، ركبتنا الهموم وأصبحنا أكثر الأمم تخلفاً: غثاء كغثاء السيل!!
وقد يقول آخر: هناك العديد من القوانين في شريعة حمورابي والقوانين الرومانية والقوانين التي كانت سائدة في حضارة الصين والهند وغيرها قبل الإسلام، ونقول: إن هذه القوانين كانت مزيجاً من الصواب والخطأ، بل هذه القوانين كانت تعطي الحصانة المطلقة للملك أو الإمبراطور، والذي فعله الإسلام أنه صحح القوانين الخاطئة، وأبقى على القوانين الصحيحة، وهذا لم يكن باستطاعة بشر يعيش في ذلك الزمن، ولذلك فإن هذه الآية من آيات الإعجاز التشريعي والتي تشهد على صدق القرآن وأنه كتاب صالح لكل زمان ومكان.
ونقول بالله عليكم: هل يمكن لإنسان يتهمونه بالتخلف والإرهاب، أن يأتي بمثل هذه التشريعات التي تعمل بها اليوم كبرى الدول في العالم؟ إنه دليل صادق على أنه رسول من عند الله عز وجل، وأنه كما وصفه ربه بقوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188]. ولابد من السؤال: من أين جاء هذا النبي بتشريعات دقيقة كهذه، واختصرها في آية واحدة، لو لم يكن رسولاً من عند الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق